حتة مزيكا من جوه

Monday, May 03, 2010

تصوير داخلى

اقرر أن اكتب عن أبى، احضر قلمين أحمر ورصاص أضعهم أمامى واحضر دفتر تدوينى وافتحه على صفحة جديدة، اكتب فى نصف السطر أبى بين علامتى تنصيص، لكن لا يأتى أى كلام....اترك الدفتر وافتح النافذة آمله أن يأتينى المدد مع لفحات الليل الباردة...ثم اترك المكان كله واذهب لصنع كوب من القهوة فدائماً ما تأتينى القهوة بالمزيد من السهر والفقد والكلمات...لكن لا يأتى أى كلام...
والآن يرن المنبه كأنما ينقصنى تشتت فاذهب لأغلقه وأوقظ أبى حتى لا يتأخر على موعد جلسته
أبى مريض بالفشل الكلوى، يذهب لجلسة الغسيل ثلاث مرات أسبوعياً، أصيب أبى بهذا الفشل كتابع من توابع مرض السكر الذى أصابه منذ 23 عاماً بعد متتالية أحزان بعد موت جدى ولعدم إنتظامه فى جرعات الأنسولين وعدم إتباع نظام غذائى يراعى إحتياجات جسده أصابه هذا الفشل المزمن فى كليتيه...يدور كل ذلك فى رأسى فى المسافه بين الصالة وحجرة نوم أبى وأمى..يسألنى أبى عن الساعة فاقول له أن الفجر قد أذن وتستيقظ أمى من صوتنا و تنهض كى ترافقه إلى جلسته.
أقف فى الشرفة وأستمع للمصلين وهم يؤدون صلاة الفجر..انظر إلى السماء وأسئلها لم كل هذا التأخير؟ وكم على أن أنتظر؟؟ ثم اعود لدفترى لعلى أجد الاجابة قد حضرت...أرى أمى وهى تمر من أمامى وتسألنى إن كنت أريد شاياً بلبن معها فأرفض وتولينى ظهرها...أتأملها بعينى وهى تتحرك ببطء وتخرج علاج أبى وتضعه فى حقيبة يديها..أتأمل ارتجافة قلبها على أبى و التعب فى عينيها، ذلك التعب الذى لا يضيع بالنوم ولا الضحك...تنام وتصحو به كل صباح لا استطيع أن أبعد عينى عنها وهى تذهب إلى المطبخ....أخبرها أنى ساذهب لمرافقته بدلاً منها...واذهب لأرتدى ملابسى..
انزل مع أبى ونمشى الى أخر الشارع ، أضع سماعات الأذن واسمع حازم شاهين وضرباته القوية على العود..واضيع بها ويساعدنى ذلك الهدوء النسبى للشوارع فى ذلك التوقيت...حيث لا أصوات سوى حفيف أوراق الشجر ونباح الكلاب على أى عابر أو على أصداء أصواتهم لاعتقادهم أن ثمة كلب أخر فى مكان ما لا يرونه ينبح لهم فيردون عليه
نقف ننتظر مجئ (ميركوباص) لميدان الألف مسكن..تقف عربة لنا ولا يكون فيها سوى شخصين أو ثلاث وربما أحد عساكر الجيش يذهب لآداء خدمته، نصل الى الميدان ومن هناك نستقل اول حافله للشيراتون حيث مركز الغسيل الذى يتابع فيه أبى...
نصل إلى المركز نجد الممرض طارق ومريض أخر حضر قبلنا بنصف ساعة تقريباً...أشاهد أبى وهو يتمدد على كرسى جلد كبير وبجانبه ماكينه الغسيل ذات الخراطيم المتدلية من الجوانب...يركب له طارق الممرض خرطومين فى ذراعه اليسرى...خرطوم يخرج منه الدم الملوث ويمر فى الفلتر وبعد أن ينقى تماماً من كل تلك السموم التى عجزت الكليتين عن تخليص جسد أبى المسكين منها تمر فى الخرطوم الثانى ومنه إلى جسد أبى نظيفة...أنتظره بالخارج على أحد الكراسى الرمادية البلاستيك المصفوفة جنب بعضها البعض ...أحاول أن أقرأ شيئاً فأمل بعد نصف ساعة ويمر الوقت بطيئاً...أتذكر تدوينتى الجديدة عن أبى فأحاول أن اكتب سطراً واحداً حقيقياً وبعدها سوف يأتى الوحى ..لكنى لا اكتب سوى" عاوزة اروح انااااااام" ، أتراجع عن المحاوله واكمل قراءة تلك السطور التى لا افهم منها كلمة واحدة....يظل أبى 4 ساعات ممداً على ذلك الكرسى يغفو خلالها قليلاً ويفيق ..يداعب زملائه فى الحجرة ويتحدثون عن كل شئ...أتابع أحاديثهم وأرتاح لإندماجه معهم وإنشغاله عن آلامه بالضحك...وأخيرا تنتهى الجلسة ..يخرج أبى منها متعباً واعرف ذلك من نبرة صوته الواهنة...يظل يغالب ذلك التعب بمداعبته إياى والسخرية من كل شخص يعبر بجانبنا...أبادله دعابته والضحك معه ونقف ننتظر حافله بعد أخرى ...بعد حوالى ساعة نصل إلى البيت وتكون أمى قد ذهبت لعملها ولا أحد مستيقظ سواى أنا وأبى ..أحضر له الفطار وجرعه الأنسولين ودواء المعدة والضغط...يفتح أبى التلفاز ويتابع برنامجه المفضل وهو يأكل وأتابعه أنا بعينى وهو يتناول فطوره ببطء وتأنى شديدين حذراً وهو يستعمل يده اليسرى كأنها من زجاج يخشى أن يكسره..بعد أن أصنع له نصف كوب من الشاى..يدخل ليستريح بعد تلك الجلسة الشاقة..وأسأله إذا كان يريد شيئا قبل أن ينام ..أعتقد الآن أنى ممتلئه بالكثير لأكتبه عن أبى ..احضر قلمين أحمر ورصاص أضعهم أمامى واحضر دفتر تدوينى وافتحه على صفحة جديدة ...لكن لا يأتى أى كلام فأغلقه واذهب لانام بجوار أبى....

1 comment:

Omaima said...

الله ، حلوة أوي التدوينة يا دينا ، أوي

بحب جداً الكتابة اللي بالشكل ده ، تفاصيل صغيرة بتتسرد وتتحكي برقة

مبسوطة إني جيت هنا ، هروح ألف وأقرا شوية
:)